أميمة بوخليفي **
القلم ليس مُجرد أداة تُمسك بين الأصابع؛ إنِّه امتداد للوعي الإنساني، ووسيلة الروح لتعلن حضورها في هذا العالم الصاخب، هو المرآة التي تنعكس عليها رؤيتنا للوجود، والنافذة التي نتنفس منها المعنى حين يضيق بنا الواقع. فحين يكتب الإنسان لا يخط حروفاً على ورق، بل يترك أثرًا في الزمان، ويودع في اللغة بصمته الخاصة على التاريخ.
كان جدي، الكاتب والصحفي مصطفى بوخليفي- رحمه الله- يدرك هذه الحقيقة العميقة، لم يكن يرى القلم وسيلة لنقل الخبر فقط، بل أداة لبناء وعي، وممارسة يومية للفكر، وتأكيدًا على أن الكلمة موقف ومسؤولية، كان مؤمنًا بأن الكتابة ليست ترفًا بل شكلاً من أشكال المقاومة ضد الزيف والسطحية، وأن على الكاتب أن يظل شاهدًا على عصره، حارسًا للضمير الإنساني وسط عتمة الضوضاء.
وحين ورثت قلمه، شعرت أنني لا أرث شيئًا ماديًا، بل أستلم شعلة فكرية. القلم الذي انتقل إليّ لم يحمل فقط ذاكرة الكلمات التي كتبها، بل الطاقة التي حرّكته: صدق النية، ونقاء الهدف، وشغف البحث عن الحقيقة. ومع كل سطر أكتبه، أشعر أنني أشارك في حوار طويل بدأ قبلي بزمن، ولن ينتهي بانتهاء عمري.
إن الكتابة بالنسبة لي ليست تكرارًا لما قاله جدي، إنما استمرار لتلك العلاقة الحيّة بين الإنسان والفكر، بين الحقيقة والتعبير. فالقلم -في جوهره- ليس ملكًا لكاتب واحد، بل إرث إنساني يتجدّد مع كل من يحمل الوعي ويجرؤ على قول ما يراه حقًا.
في زمن تتكاثر فيه الأصوات وتضيع فيه المعاني، يُصبح القلم فعلًا من أفعال الحرية، إنِّه يقاوم النسيان ويستعيد للإنسان إنسانيته وسط عالمٍ متخم بالضجيج، فكل كتابة هي محاولة لإعادة ترتيب العالم على نحوٍ أعدل، وكل كلمة صادقة تُقال هي نوع من الخلاص.
حين أجلس اليوم أمام شاشة الحاسوب وأنا ممسكة بقلم جدي، أشعر أنَّ الذي بين أصابعي ليس سوى امتدادٍ لرحلةٍ بدأت منذ أن قرّر الإنسان أن يكتب أول فكرة على جدار الكهف، تلك الرحلة التي جعلت من الكتابة فعلاً وجوديًا، ووسيلة للتعبير عن الوعي الجمعي، ونداءً دائمًا للكرامة الإنسانية والعدالة والمعرفة.
هكذا أفهم القلم: رمزًا للاستمرارية، وللحوار بين الأجيال، وللشغف الذي لا ينطفئ. فكل جيل لا يكتب لذاته فقط، بل لمن سيأتي بعده، وأنَّ كل قلمٍ صادق هو جسرٌ بين زمنين، وصوتٌ يذكّرنا بأنَّ الحقيقة لا تموت، ما دام هناك من يجرؤ على كتابتها.
إنَّ امتداد القلم معنويًا هو امتداد لروح جدي، وللإرادة التي تصرّ على أن يكون للإنسان معنى. لذلك، سأظل أكتب، ليس لأنني حفيدة كاتبٍ ترك بصمته فحسب؛ بل لأنَّ القلم علّمني أن أكون، وأن أفكّر، وأن أترك أثرًا صغيرًا في هذا العالم، كما فعل هو بصدق، وبجمال، وبإيمانٍ بأنَّ الكلمة الحرة لا تموت.
** كاتبة وباحثة تنموية مغربية